يشهد العالم التقني في الأشهر الأخيرة حالة من السباق المحموم نحو السيطرة على مستقبل الذكاء الاصطناعي، سباق لم يشهد التاريخ مثله من حيث حجم الاستثمارات وسرعة التطور.
فمن شركات المعالجات العملاقة إلى مؤسسات البرمجيات والنماذج اللغوية الضخمة، الجميع يسعى إلى أن يكون في مقدمة الثورة التي يُعتقد أنها ستغيّر وجه الاقتصاد العالمي خلال عقدٍ واحد.
في هذا السياق، فجّرت شركة OpenAI، بقيادة سام ألتمان، سلسلة من الصفقات التي قلبت موازين القوى داخل صناعة أشباه الموصلات.
فبعد أن كانت الشركة تعتمد بشكل شبه كامل على أنظمة NVIDIA في تشغيل نماذجها مثل GPT وDALL·E وSora، أعلنت في أكتوبر 2025 عن اتفاقيتين تاريخيتين، الأولى مع AMD والثانية مع NVIDIA نفسها، تهدفان إلى تأمين عشرات الجيجاوات من قدرة الحوسبة لتدريب أجيال جديدة من النماذج الذكية.
تأتي هذه الخطوة في وقتٍ تتصاعد فيه الضغوط التنافسية بشكل غير مسبوق، إذ تتسابق شركات مثل Anthropic وGoogle DeepMind وxAI وMeta في تطوير نماذجها الخاصة.
وبات واضحًا أن من يملك أكبر قدر من القدرة الحسابية سيملك أقوى نموذج ذكاء اصطناعي، ومن يملك النموذج الأقوى سيحظى بالسيطرة على موجة التحول الصناعي القادمة.
لكن هذا الاندفاع الجنوني نحو التوسع أثار موجة من التساؤلات المشروعة بين المستثمرين والمحللين الاقتصاديين:
هل هذه الصفقات العملاقة بين OpenAI وNVIDIA وAMD تعكس استراتيجية مستدامة طويلة الأمد؟
أم أنها مجرد تضخيم مفرط لتقييمات السوق شبيه بما حدث مع شركات الإنترنت قبل انهيار فقاعة عام 2000؟
الأرقام وحدها كفيلة بإثارة القلق، فاستثمارات بمئات المليارات تُضخ في مشاريع لم تدر بعد أرباحًا حقيقية، وأسهم شركات أشباه الموصلات ترتفع إلى مستويات غير مسبوقة، في حين تعتمد بعض الاتفاقيات على أدوات مالية معقدة مثل خيارات الأسهم (warrants) بدل التدفقات النقدية الفعلية.
وبينما يرى البعض في ذلك بداية عصر جديد من الثورة الصناعية الرابعة، يرى آخرون أنها فقاعة مالية تكنولوجية تتضخم بهدوء تحت غطاء “الذكاء الاصطناعي”.
هذه المقالة تسعى إلى تحليل الصورة الكاملة: خلفيات هذه الصفقات الضخمة، منطقها الاقتصادي، والمخاطر المحتملة التي قد تقود إلى تصحيح أو حتى انهيار في السوق خلال السنوات المقبلة.
أولًا: تفاصيل الصفقات الكبرى
صفقة OpenAI و AMD
في أكتوبر 2025، أعلنت OpenAI وAMD عن اتفاقية تاريخية لنشر ما يصل إلى 6 جيجاوات من قدرات GPU خلال الأعوام القادمة.
تبدأ المرحلة الأولى بتوفير 1 جيجاوات في النصف الثاني من 2026، مع إمكانية أن تستثمر OpenAI للحصول على حصة تصل إلى 10٪ من أسهم AMD.
اللافت في هذه الصفقة هو أن OpenAI ستحصل على “warrants” (خيارات شراء أسهم مستقبلية)، ما يعني أن جزءًا كبيرًا من تمويل الصفقة يعتمد على ارتفاع قيمة سهم AMD مستقبلًا، وهو ما يثير جدلًا حول واقعية التقييمات المتفائلة.
صفقة OpenAI و NVIDIA
أما الصفقة الأضخم فجاءت مع NVIDIA، إذ تم الإعلان عن شراكة تتضمن 10 جيجاوات من الأنظمة الفائقة المبنية على أحدث معالجات Hopper وBlackwell.
تقدر القيمة الإجمالية للاستثمار بنحو 100 مليار دولار على مراحل، ما يجعلها واحدة من أكبر الصفقات في تاريخ صناعة أشباه الموصلات.
هذه الأرقام الهائلة دفعت بعض المحللين في Bloomberg وThe Economist إلى وصفها بأنها “استثمار تفاعلي دائري”، أي أن الشركات نفسها ترفع من قيمة بعضها البعض من خلال إعلانات ضخمة قد لا تكون جميعها منفذة بعد.
ثانيًا: منطق السباق نحو “الذكاء الكامل”
تحاول OpenAI عبر هذه الصفقات تحقيق استقلال حوسبي لتقنياتها المستقبلية، وخاصة مشاريعها المرتبطة بالذكاء الاصطناعي العام (AGI).
فالنماذج الحديثة، مثل GPT-5 وGPT-Next، تتطلب قدرة هائلة من المعالجة المتوازية، تصل إلى ملايين وحدات المعالجة الرسومية.
لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب استثمارات ضخمة جدًا في مراكز البيانات، الطاقة، والعتاد، ما يجعلها بيئة خصبة لتضخم التوقعات المالية.
ثالثًا: هل نعيش فعلاً فقاعة الذكاء الاصطناعي؟
المؤشرات الحالية تذكّر كثيرين بما حدث أثناء فقاعة الإنترنت في بداية الألفية:
- تضخيم التوقعات:
الأسواق تتعامل مع الذكاء الاصطناعي وكأنه سيغيّر كل الصناعات خلال سنوات معدودة، متجاهلة العوائق الواقعية في الطاقة، والتكلفة، والتنظيم. - الاستثمار في المستقبل بدل العائد الحالي:
كثير من الشركات لا تحقق أرباحًا بعد، لكنها تُقيّم بمليارات الدولارات بناءً على وعود مستقبلية. - التمويل عبر الأسهم بدل النقد:
في صفقة AMD، يتم تمويل جزء من العملية عبر ارتفاع قيمة السهم، وليس عبر تدفقات نقدية حقيقية — وهو نمط مشابه لما حصل في شركات الإنترنت عام 1999. - الاعتماد المفرط على سلسلة توريد محدودة:
NVIDIA تسيطر على أكثر من 80٪ من سوق وحدات الذكاء الاصطناعي، ما يجعل أي خلل في إنتاجها أو في توافر الطاقة كارثيًا على السوق بأكمله.
رابعًا: لماذا قد لا يحدث الانهيار الكامل
رغم المؤشرات المثيرة للقلق، هناك عوامل تمنح الذكاء الاصطناعي أرضية أكثر صلابة من فقاعة الإنترنت:
- التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي تتوسع فعليًا في قطاعات الطب، التعليم، والصناعة.
- الحكومات والشركات الكبرى (مثل Microsoft وAmazon وGoogle) تستثمر فعليًا مليارات الدولارات في البنية التحتية والبرمجيات.
- الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا من التحول الرقمي الوطني في عدة دول، وليس مجرد موضة مؤقتة.
هذه العوامل تجعل احتمال الانهيار الكامل ضعيفًا، لكنه لا ينفي احتمال حدوث تصحيح قوي للأسعار والتقييمات.
خامسًا: مؤشرات على بداية التراجع المحتمل
بعض المحللين الاقتصاديين يرصدون إشارات مبكرة على التشبع أو “الركود المؤقت” في سوق الذكاء الاصطناعي، منها:
- تراجع نمو الطلب على وحدات A100 وH100 بسبب محدودية الطاقة الكهربائية في مراكز البيانات.
- دخول منافسين جدد مثل Intel وTenstorrent وGraphcore، مما قد يخفض هوامش الأرباح مستقبلاً.
- القلق التنظيمي المتزايد في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي حول استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات والتأثير السياسي.
كل هذه العوامل قد تدفع المستثمرين إلى إعادة تقييم الحماس المفرط الذي يحيط بالسوق حاليًا.
سادسًا: قراءة مستقبلية
من المرجّح أن نرى خلال 2026–2027 بداية مرحلة جديدة في سوق الذكاء الاصطناعي:
- تقل فيها الإعلانات الضخمة،
- ويبدأ التركيز على الربحية الفعلية والكفاءة الطاقية،
- وتبرز الشركات التي تمتلك حلولًا واقعية أكثر من مجرد وعود تسويقية.
قد لا تكون “نهاية الفقاعة”، بل بداية نضوج السوق، حيث يخرج الضعفاء وتبقى الشركات التي استطاعت تحقيق توازن بين الابتكار والعائد المالي.
الخاتمة: بين الابتكار والتضخم
في النهاية يمكن القول إنّ ما يجري اليوم في عالم الذكاء الاصطناعي يتجاوز كونه مجرد سباق تجاري بين الشركات التقنية الكبرى؛ إنه تحوّل جذري في بنية الاقتصاد العالمي بأسره.
الصفقات الأخيرة بين OpenAI و NVIDIA و AMD تمثل ذروة هذا التحوّل، حيث تتشابك فيها التكنولوجيا مع المال، والطموح العلمي مع الرغبة في السيطرة الاقتصادية، والاستثمار مع السياسة الصناعية العالمية.
لكن هذا التشابك المذهل يخفي وراءه مفارقة عميقة: فبينما يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه المنقذ الذي سيقود البشرية نحو كفاءةٍ غير مسبوقة في العمل والإنتاج، إلا أن طريق الوصول إليه يبدو محفوفًا بالمخاطر، مخاطر الاحتكار، والمضاربة، والتقييمات الوهمية، واستهلاك الطاقة المفرط.
اليوم، أصبحت شركات مثل NVIDIA و AMD في موقع يمكّنها من تحديد سرعة التطور التقني العالمي، لأن قدراتها الإنتاجية هي من تحدد من يستطيع بناء نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة ومن لا يستطيع.
وإذا استمر الوضع بهذا الشكل، فقد نصل إلى مرحلة يصبح فيها الذكاء الاصطناعي قطاعًا احتكاريًا عالي التكاليف، لا يقدر على دخوله سوى قلة من الشركات العملاقة، تمامًا كما حدث مع قطاع النفط في بدايات القرن العشرين.
ومع أن البعض يرى أن هذه الاستثمارات ضرورية لبناء مستقبل رقمي متطور، إلا أن التاريخ علّمنا أن كل ثورة تكنولوجية كبرى تأتي معها موجة من الفقاعات، من السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، إلى الإنترنت في مطلع الألفية، والآن الذكاء الاصطناعي في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
الفرق الجوهري هذه المرة هو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد منتج أو خدمة، بل هو بنية تحتية فكرية وصناعية تمتد إلى الطب والتعليم والصناعة والإعلام وحتى الأمن القومي.
وبالتالي، فإن أي انهيار أو تصحيح في هذا القطاع لن يكون مجرد “أزمة اقتصادية”، بل زلزالًا معرفيًا يعيد تعريف علاقتنا بالتقنية والابتكار.
ربما لا تكون فقاعة الذكاء الاصطناعي قد انفجرت بعد، لكن الهواء بدأ يتكاثف داخلها.
والسؤال الذي يجب أن يشغل المستثمرين والمطورين على حد سواء ليس: متى ستنفجر؟ بل: كيف يمكننا جعلها لا تنفجر أصلًا؟
والجواب يكمن في التوازن بين الابتكار المسؤول والاستثمار المنضبط، بين الخيال العلمي والواقعية الاقتصادية.
فإذا استطاعت الشركات الكبرى، وعلى رأسها OpenAI و NVIDIA و AMD، أن تحوّل هذه الاندفاعة من سباق أرقام إلى سباق كفاءة واستدامة، فقد تكون هذه الثورة هي الأكثر استقرارًا في تاريخ التقنية الحديث.
أما إذا استمر الحماس المفرط بلا عائدٍ ملموس، فربما سنستيقظ ذات صباح على عناوين مشابهة لتلك التي قرأناها عام 2001، ولكن هذه المرة بعنوان جديد:
“فقاعة الذكاء الاصطناعي تنفجر… والسباق نحو الذكاء العام يتوقف مؤقتًا”