هذه سلسلة من المقالات التي سأتناول فيها كل شئ عن الحاسوب (باذن الله) ، فكرة عمله ، بداية نشأته ، تدرج تطوره ، العوامل التي بدّلت من مسار هذا التطور ، وكيف تغيّر الحاسوب الي شئ مختلف تماما عن ما اعتقده الحالمون الأولون.
ناقشنا في الجزء الأول كيف أن بداية الحاسوب كانت بداية تقليدية ، اعتمدت علي حاجة الانسان ، ولم تكن مقصودة أو متعمّدة ، فنشأت الأحهزة التناظرية أولا (السماعة والشاشة) ، ثم تبعتها نشأة الذواكر ، ثم نشأة المعالجات .
و للقادمين الجدد ،فانني أنصح بقراءة الجزء الأول قبل قراءة هذا الجزء ، لأن الأفكار متصّلة في الجزئين ، والاستفادة ستكون أكثر اكتمالا عند قراءة الموضوعين بالترتيب .
الجزء الأول هنا : في سبيل ادراك أشمل للحاسوب (الجزء 1) : البداية ..
حديثنا اليوم عن الأجهزة التناظرية ، وبالتحديد السمّاعة والشاشة ، أرجو الانتباه وتفتيح العقل ، فأنتم علي موعد مع بعض الأفكار التي ستعصف بالذهن بلا شك !
اولا: وهم الصوت :
في الجزء الأول ، استخدمنا مثالا مبسّطا للسماعة ، وشرحنا به كيفية نشأة الحاسوب ، كما بيّنا أن الصوت هو مجرد اهتزاز منتظم لذرّات الهواء ، وكل ما تفعله السماعة هو أن تهتز ، فيهتز الهواء حولها فتسمع أنت صوت هذا الاهتزاز .
وكلمة “اهتزاز” لا تعني هنا سوي الحركة ، حركة منتظمة ذهابا وايابا ، فعندما أقول أن كفّة يدي تهتز أو ترتجف ، فانني أشير الي حركة يدي الخفيفة الي أعلي ثم الي أسفل ثم الي أعلي ثم الي أسفل .. ، أو الي اليمين ثم الي اليسار ثم اليمين ثم اليسار .. ، بحسب وضعيّة يدي .
كذا الأمر مع الصوت ، فعندما أقوم بالدق علي طبلة مثلا ، فان سطح هذه الطبلة يهتز الي أعلي والي أسفل بسرعة شديدة ، ولأن الهواء يحيط بسطح هذه الطبلة من أعلي ومن أسفل ، فانه يهتز أيضا بسرعة متأثرا باهتزاز سطح الطبلة ، ثمّ سرعان ما تنتشر هذه الاهتزازات في الهواء أكثر وأكثر ، وتتغلغل فيه ، حتي تهزّ الهواء المحيط بأذنك .
عندما تهتز الأجسام ، فانها تهز الهواء المحيط بها ..
نعم يا صديقي ، هذه هي الاهتزازات التي يُحدثها الصوت في الهواء ..
ويطلق الفيزيائيون علي هذه المجموعة الكبيرة من الاهتزازات اسم الموجة Wave ، لذا فعندما تسمع كلمة موجة في أي شئ ، فيجب أن يتبادر الي ذهنك مفهوم الحركة والاهتزاز .
عندما تصل الذبذبات أو الاهتزازت الي الهواء البسيط المحيط بأذنك ، تستقبلها طبلة الأذن ، وهي غشاء رقيق في غاية المرونة ، ويتأثر بالاهتزازات بسهولة .
انتقال موجات الصوت في الهواء الي أذن الانسان ..
تهتز الطبلة ذهابا وايابا كذلك، وتنقل اهتزازاتها الي ثلاثة عظمات صغيرة داخل تجويف الأذن ، ولأن العظم هو جسم صلب، فانه يهتز بعنف شديد، ويخدم هذا غرض تكبير الاهتزازات ومضاعفة مقدارها ، لأن اهتزاز الجوامد أقوي بالتأكيد من اهتزاز الهواء، ثمّ -وفي أقل من لحظة- تتحول كل اهتزازت العظم الي نبضات كهربية ، تنتقل بسرعة شديدة الي المخ، و ..
و فقط !
الي هنا ينتهي تماما مسار الصوت ، و الي هنا -أيها السادة- يقف العلم عاجزا عن المضي الي الأمام..
الي هنا نتوقف تماما عن الشرح ، وكل ما سنضيفه هنا أن المخ -مخّك أنت- يسمع الصوت !
الصوت ، والذي هو مجرّد اهتزازات تنتقل في الهواء ، يتحول في مخك الي نبضات كهربية ، فستمع أنت هذا “الصوت” .
اذن كيف تسمع أنت هذا الصوت ؟ كيف تشعر بالصوت من الأصل ؟ بل قل كيف تشعر أنت بأي شئ ؟ ما هو “الشعور” أصلا ؟
لا اجابة علي هذا السؤال ! ، الشئ الوحيد الذي نستطيع استبيانه هنا هو أن الصوت ليس الا مجرد وهم ، فالأجسام من حولنا لا تصدر صوتا ولا تتعامل بالصوت ، وانما تهتز وتتحرك فقط ، والأذن ليست الا لاقط للحركة والاهتزازات ، أما احساس الصوت نفسه ، فهو شئ مختلف تماما ، ويحدث في عقلك فقط .
نعم ، لا وجود للصوت الا في مخك وعقلك فقط ، فاذا فرضنا أننا صممنا انسانا آليا ، وأردنا تزويده بالقدرة علي السمع ، فان أقصي ما سنستطيع عمله هو تركيب حسّاسات صناعية للحركة داخل هذا الآلي ، وسيتعامل هو معها علي أنها حسّاسات للحركة أو لاهتزازات الهواء ، ولن يميز المسكين ساعتها بين اهتزاز الهواء بغرض نقل الصوت وبين حركة الرياح ، فكلّها بالنسبة اليه مجرد “حركة” ، أما قابليته لأن يسمع أو أن “يشعر” بالصوت فستكون مستحيلة تماما .
وعندما أقول “مستحيلة تماما” فانني أعني ما أقول ، حرفيا وعلميا .
الأذن هي لاقط حيوي للحركة ، فهي تستقبل اهتزازت الهواء ، وتولد من كل هزة تيارا كهربيا الي المخ ..