غياب الشركات الناشئة في الشرق الأوسط عن InnoVEX: لماذا يجب أن تحضر

من يتابع مسار التكنولوجيا وريادة الأعمال على مستوى العالم يلاحظ أن السنوات الأخيرة شهدت تسارعًا هائلًا في بروز منصات تجمع الشركات الناشئة وتفتح لها الأبواب أمام التوسع الدولي. واحدة من أبرز هذه المنصات هي InnoVEX، الجناح المخصص للشركات الناشئة ضمن فعاليات معرض COMPUTEX في تايبيه، والذي أصبح نقطة التقاء رئيسية بين رواد الأعمال والمستثمرين وحاضنات الابتكار. هذا الجناح لم يعد مجرد مساحة عرض للمنتجات أو الأفكار، بل تحول إلى ملتقى عالمي يحدد ملامح مستقبل التكنولوجيا عبر استعراض أحدث الحلول وتشكيل شراكات استراتيجية عابرة للحدود.

منذ انطلاقه قبل عقد من الزمن، رسخ InnoVEX مكانته كواحد من أقوى الفعاليات التي تستقطب اهتمام الشركات الناشئة في مختلف المجالات، من الذكاء الاصطناعي إلى التقنية المالية مرورًا بالروبوتات وإنترنت الأشياء. نسخة 2025 كانت خير دليل على ذلك، إذ جمعت أكثر من 450 شركة ناشئة من 24 دولة ومنطقة، وشهدت حضورًا قويًا لأجنحة وطنية مدعومة بشكل منظم من حكومات ومؤسسات دولية. لكن وسط هذا الزخم العالمي، كان الغياب العربي والشرق أوسطي ملحوظًا بشكل لافت، ما يثير تساؤلات عديدة حول أسباب هذا الغياب، وأهميته، وما قد يخسره قطاع الابتكار في المنطقة نتيجة الابتعاد عن هذه الساحة العالمية.

قراءة في مشهد الاستثمارات الإقليمية

تشير تقارير MAGNiTT و Wamda إلى أن الشركات الناشئة في منطقة MENA جمعت خلال النصف الأول من عام 2025 حوالي 2.1 مليار دولار عبر 334 صفقة، بزيادة هائلة بلغت 134٪ عن الفترة نفسها من العام السابق. هذه القفزة تعكس بلا شك الثقة المتزايدة في بيئة ريادة الأعمال بالمنطقة، كما تكشف عن التوجه الحكومي المتنامي لدعم هذا القطاع عبر برامج رؤية 2030 في السعودية، ومبادرات الاقتصاد الرقمي في الإمارات ومصر.

لكن عند التدقيق في الأرقام، نجد أن التمويل بالدين استحوذ على نحو 930 مليون دولار، أي ما يقارب نصف الإجمالي، ما يثير تساؤلات حول طبيعة هذا النمو: هل هو نمو مُستدام قائم على الابتكار والملكية الفكرية، أم نمو مدفوع بضخ سيولة قصيرة الأمد؟

كما قادت السعودية المشهد بتمويلات بلغت حوالي 860 مليون دولار، لتستحوذ على أكثر من نصف إجمالي التمويل في المنطقة، بينما استحوذ قطاع التقنية المالية (Fintech) وحده على ما يقارب 969 مليون دولار، ما يعكس تركيزًا شديدًا على قطاع بعينه دون تنويع واسع في المجالات الأخرى.

المشهد الدولي: أين تقف آسيا مقارنة بالشرق الأوسط؟

على النقيض من ذلك، تُظهر تقارير KPMG أن آسيا جمعت خلال الربع الثاني من 2025 حوالي 12.8 مليار دولار من استثمارات رأس المال المخاطر، وهو أحد أضعف المستويات لها خلال السنوات الأخيرة، بينما تجاوزت الاستثمارات في الأمريكتين 70 مليار دولار في نفس الفترة. ورغم هذا “التباطؤ النسبي”، فإن حجم الاستثمارات في آسيا لا يزال أضعاف ما تحققه منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

ومن المهم هنا النظر إلى جنوب شرق آسيا كنموذج للمقارنة: فقد جمعت نحو 5.6 مليار دولار عبر 564 صفقة في 2024، أي أكثر من ضعفي حجم السوق في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا، رغم تشابه الظروف الديموجرافية والتكنولوجية إلى حد ما.

هذه المقارنة توضح أن المنطقة ليست عاجزة عن جذب الاستثمارات، بل إن هناك فجوة في الانفتاح على الأسواق العالمية، إذ يظل التركيز محصورًا في التمويل المحلي أو الإقليمي، في حين أن الأسواق الناشئة الأخرى نجحت في مد جسور نحو المنصات العالمية مثل InnoVEX لتعزيز حضورها.

لماذا يجب أن تكون شركات الشرق الأوسط في InnoVEX؟

غياب الشركات الناشئة من المنطقة عن InnoVEX لا يمثل مجرد خسارة لحضور إعلامي أو تسويقي، بل هو خسارة استراتيجية على عدة مستويات:

  • الانفتاح على رأس المال العالمي: التمويل المحلي وحده لا يكفي لتوسيع الشركات على نطاق عالمي. المستثمرون في InnoVEX يجلبون رأس مال “نوعي” يدعم النمو الدولي.
  • الوصول إلى سلاسل التصنيع: معظم الصناعات الإلكترونية والتقنيات المتقدمة تُصنع في آسيا. المشاركة في InnoVEX تعني لقاء مباشر مع هذه السلاسل بدلًا من الاكتفاء بالأسواق المحلية.
  • التأثير في رسم الاتجاهات: المنصات مثل InnoVEX ليست مجرد معارض، بل محطات تُحدد فيها الاتجاهات التقنية للسنوات القادمة. الغياب عنها يعني أن صوت المنطقة غير مسموع في هذه العملية.
  • بناء صورة جماعية للمنطقة: المشاركة عبر أجنحة وطنية أو إقليمية تعزز صورة المنطقة كمركز ابتكار ناشئ، بدلًا من الظهور الفردي المحدود.
  • تنويع مصادر التمويل والشركاء: مستثمرون آسيويون يستثمرون في تقنيات مكملة لسلاسل القيمة المحلية؛ حضور الشركة يوفر فرصًا لصفقات إستراتيجية لا تتوفر في كل الفعاليات المحلية.
  • إمكانية تصدير التكنولوجيا والخدمات: حلول مثل SaaS، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني ووحدات التحليل يمكن أن تجد أسواقًا أو شركاء توزيع في جنوب شرق آسيا واليابان وكوريا.
  • بناء مصداقية وهوية علامة تجارية عالمية: الظهور في منصة دولية كبرى يرفع من ثقة الشركاء والعملاء والمستثمرين ويُسهِم في بناء هوية تصديرية.
  • التعلّم من نماذج الأعمال المتقدمة والتقنيات الصناعية: التعرّض للممارسات الصناعية المتقدمة يحسّن من جودة المنتج والقدرة التنافسية.
  • شبكات بحثية وصناعية مع جامعات ومختبرات آسيوية: InnoVEX يجمع مؤسسات بحثية وصناعية يمكن أن تتحول لشراكات تطوير منتج أو مشاريع بحثية مشتركة.

هذه الفوائد تجعل من الحضور استثمارًا ذا عائد بعيد المدى وليس مجرد تكلفة قصيرة الأجل.

التحديات التي تفسّر الغياب

رغم وضوح الفوائد، هناك عوامل تُفسّر ضعف الحضور، مثل:

  • ضعف آليات الدعم الحكومي للمشاركة الدولية، حيث يُترك الأمر غالبًا لمبادرات فردية من الشركات الناشئة.
  • الميل إلى التركيز على الفعاليات المحلية أو الإقليمية مثل GITEX أو Step Conference، ما يحد من التوجه نحو الفعاليات العالمية.
  • الاعتماد المتزايد على التمويل بالدين، الذي قد يوفّر السيولة لكنه لا يدعم بالضرورة الانفتاح الدولي أو الشراكات الاستراتيجية.
  • تركيز الاستثمارات على قطاع أو اثنين (مثل fintech)، ما يقلل من التنوع المطلوب للعرض أمام المستثمرين العالميين الذين يبحثون عن حلول في قطاعات التصنيع، الرعاية الصحية، والذكاء الاصطناعي الصناعي.
  • عوائق إدارية ولوجستية مثل الحصول على التأشيرات، والتكاليف العالية للمشاركة والسفر.

آفاق الحل: نحو استراتيجية إقليمية للانفتاح العالمي

لردم هذه الفجوة، ثمة حاجة إلى رؤية مشتركة تتجاوز حدود الدول الفردية:

  • على الحاضنات والمسرّعات أن تُهيئ الشركات للانفتاح على أسواق آسيا، عبر تكييف منتجاتها لتلائم متطلبات المستهلكين هناك.
  • على صناديق الاستثمار الجريء أن ترى في المشاركة وسيلة لتعظيم العائدات عبر فتح قنوات جديدة للتمويل والتوسع.
  • وعلى الشركات الناشئة نفسها أن تدرك أن الحضور في InnoVEX ليس مجرد تكلفة، بل استثمار استراتيجي في مستقبلها العالمي.

توصيات عملية لإعادة رسم الاستراتيجية

  • بناء منصات دعم رسمية: على الحكومات تخصيص برامج لدعم مشاركة الشركات الناشئة في الفعاليات الدولية، بما في ذلك تغطية تكاليف السفر والعرض.
  • تشكيل أجنحة إقليمية موحدة: التعاون بين دول الخليج ومصر والأردن لتكوين جناح مشترك في InnoVEX سيعطي ثقلًا أكبر.
  • تعزيز التدريب على التوسع الدولي: إعداد رواد الأعمال لكيفية مخاطبة المستثمرين العالميين، مع التركيز على صفقات الـ Equity.
  • تشجيع التنوع القطاعي: دعم الشركات الناشئة في مجالات الصحة الرقمية، الزراعة الذكية، والذكاء الاصطناعي الصناعي.
  • إقامة شراكات مع منظمي InnoVEX: لضمان وجود قنوات رسمية تسهّل مشاركة المنطقة سنويًا.

مخاطر استمرار الغياب

  • تراجع القدرة التنافسية الصناعية: الشركات التي لا تتعامل مع الموردين والمصنعين الآسيويين قد تواجه تأخراً تكنولوجياً أو تكلفة إنتاج أعلى.
  • فقدان فرص التمويل المتنوّع: المستثمرون الذين يركزون على سلاسل القيمة الآسيوية قد يتجاهلون الشركات المعزولة جغرافيًا.
  • عزلة الابتكار: عدم التعرّض لشبكات بحثية وتقنية عالمية يبطئ تبنّي أفضل الممارسات.

الخاتمة: من النمو المحلي إلى التأثير العالمي

في النهاية فان غياب الشركات الناشئة من الشرق الأوسط عن InnoVEX هو أكثر من مجرد تفصيلة تنظيمية، إنه انعكاس لفجوة استراتيجية بين الزخم المحلي والحضور العالمي. ففي الوقت الذي تتدفق فيه مليارات الدولارات داخل المنطقة لدعم الشركات الناشئة، تبقى هذه الاستثمارات حبيسة الأطر المحلية، غير قادرة على التحول إلى قصص نجاح عالمية تترك بصمة في سلاسل القيمة الدولية.

إن عدم المشاركة يعني ببساطة أن قصص نجاح المنطقة قد لا تُسمع في دوائر الابتكار العالمي، في حين يملأ منافسوها من آسيا وأمريكا هذه الفجوة. ومع ذلك، فإن الفرصة ما تزال قائمة، وربما تكون اللحظة الحالية هي الأكثر ملاءمة. فالعالم يشهد إعادة تشكيل لمعادلات الاستثمار بسبب تباطؤ آسيا، وصعود قطاعات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي الصناعي، والطاقة النظيفة، والروبوتات. هذه التحولات تفتح أبوابًا واسعة أمام المنطقة إذا أحسنت استغلالها.

إن الحضور في InnoVEX ليس ترفًا ولا مجرد استعراض، بل ضرورة استراتيجية، تمليها لغة الأرقام وحتميات المنافسة. والرهان على الحضور الدولي هو ما سيحدد ما إذا كانت الشركات الناشئة في المنطقة ستبقى محلية الطموح، أم ستصبح لاعبة رئيسية في خارطة الابتكار العالمي.

محمد رمزي

مؤسس الموقع ورئيس التحرير، مؤمن بأهمية التكنولوجيا في تطوير المجتمع، متابع باهتمام تطور الذكاء الاصطناعي والتطور الكبير في مجالي الحوسبة والتخزين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى