في صباح يوم الاثنين الموافق السابع من يوليو لعام 2025، اهتزّت العاصمة المصرية القاهرة على وقع حدث بالغ الخطورة تمثل في اندلاع حريق هائل داخل سنترال رمسيس، أحد أقدم وأهم مراكز الاتصالات في مصر. ذلك المبنى، الواقع في قلب العاصمة بالقرب من ميدان رمسيس، لا يُعد مجرد سنترال تقني، بل هو محور رئيسي يربط قطاعات حيوية تشمل شبكة الهاتف الأرضي، الإنترنت، وعدد كبير من خطوط الألياف الضوئية التي تخدم جهات حكومية ومؤسسات مالية ومناطق سكنية وتجارية ذات كثافة عالية. لذلك، لم يكن ما حدث مجرد حريق عابر، بل كان بمثابة أزمة وطنية امتدت تداعياتها لتصيب صميم الحياة اليومية لملايين المصريين، وتهدد مؤقتًا استقرار الخدمات الرقمية في البلاد.
مع اندلاع النيران وانتشارها في الطوابق الداخلية، هرعت فرق الإطفاء إلى الموقع واستطاعت السيطرة على الحريق بعد جهود كبيرة استمرت لعدة ساعات. وعلى الرغم من سرعة الاستجابة، إلا أن الحادث أسفر عن خسائر بشرية طفيفة، وهو ما يُعدّ امراً مؤسفًا. إلا أن الأضرار التقنية التي خلّفها الحريق كانت جسيمة. حيث تعطلت مئات الكوابل والخوادم، وأُتلفت وحدات تغذية وشرائح توصيل رئيسية، وهو ما أدى فورًا إلى انقطاع واسع لخدمات الإنترنت الأرضي، خاصة في محافظتي القاهرة والجيزة. ملايين المستخدمين وجدوا أنفسهم معزولين عن الشبكة الرقمية، في وقت أصبحت فيه الاتصالات الرقمية ضرورة حياتية لا تقل عن الماء والكهرباء.
الحريق لم يؤثر فقط على البنية التحتية للإنترنت الأرضي، بل امتدت تداعياته لتشمل شبكات الهاتف المحمول أيضًا، التي تعتمد على السنترال في تغذية أبراجها ومحطاتها في عدة مناطق. عانى المستخدمون من صعوبة في إجراء المكالمات أو استخدام بيانات الهاتف، خاصة مع زيادة الضغط على الشبكات البديلة ومحاولات تحويل الأحمال بشكل عاجل. وقد وُضعت الشركات المزودة للخدمة في موقف حرج، حيث لم تكن معظمها تملك مسارات طوارئ مفعّلة بما يكفي لتعويض الفقد المفاجئ في القدرة التشغيلية، وهو ما كشف فجوة حقيقية في منظومة الاستجابة السريعة للأزمات.
لكن التأثير الأعمق والأكثر حساسية كان على القطاع البنكي والخدمات المالية الرقمية. توقفت عدد من التطبيقات البنكية الشهيرة عن العمل، وواجه المستخدمون صعوبة في تنفيذ المعاملات الإلكترونية أو الوصول إلى حساباتهم عبر الإنترنت، كما تعطلت خدمات الدفع الإلكتروني ونقاط البيع (POS) في العديد من المتاجر والمنشآت الحيوية بالاضافة الى ماكينات الصراف الآلي (ATM). هذا التوقف أربك الحركة التجارية، وتسبب في ازدحام شديد أمام بعض ماكينات الصراف الآلي التي ظلت تعمل في نطاقات غير متأثرة مباشرة بالحريق.
الحكومة المصرية، ممثلة في وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، سارعت إلى طمأنة المواطنين، مؤكدة أن البيانات لم تتعرض للتلف أو الاختراق. كما أعلنت المصرية للاتصالات أنها بدأت في تفعيل خطط بديلة لتحويل المسارات إلى سنترالات أخرى، وأنه سيتم تعويض المتضررين من المستخدمين بباقات مجانية أو خصومات. وفي الوقت ذاته، أكدت البنوك المصرية، وعلى رأسها البنك المركزي، سلامة قواعد البيانات البنكية، مشددة على وجود أنظمة نسخ احتياطي قادرة على ضمان استمرار الخدمات واستعادة العمليات بسرعة.
ومع ذلك، كشفت الحادثة عن ثغرات هيكلية في البنية التحتية الرقمية للدولة. فالاعتماد الكبير على سنترالات مركزية، مثل سنترال رمسيس، دون وجود توزيع جغرافي فعّال أو خطط طوارئ لامركزية، جعل التأثير مضاعفًا وأدى إلى شلل في شبكات الاتصال والخدمات المرتبطة بها. وقد أثبتت الأزمة أن النمو الرقمي لا يجب أن يسبق التطوير الموازي للبنية التحتية والأنظمة الأمنية والتشغيلية.
المثير للقلق أن هذه الثغرات ظهرت في وقت تسعى فيه الدولة بكل قوة لتطبيق التحول الرقمي الكامل، سواء على مستوى المؤسسات الحكومية أو القطاع المالي أو حتى الخدمات التعليمية والصحية. وتُعد مثل هذه الحوادث بمثابة اختبار حقيقي لقدرة البنية التحتية على تحمل الصدمات، بل وتدفع نحو ضرورة تبني نهج جديد يعتمد على اللامركزية، واستخدام الحوسبة السحابية، وإنشاء مراكز بيانات احتياطية مؤمنة يمكن الاعتماد عليها فورًا في حالات الطوارئ.
إن مركزية السنترالات القديمة، وتحملها عبء تشغيل مناطق شاسعة من البلاد، لا يواكب التحول الرقمي الجاري، بل يهدده في أساسه. في المقابل، تتجه دول العالم نحو نموذج مراكز البيانات الموزعة، وشبكات الاتصالات الذكية، والبروتوكولات التي تُمكّن من إعادة توجيه البيانات تلقائيًا عند حدوث أي خلل. هذا النموذج لا يضمن فقط استمرارية العمل، بل يحمي الاقتصاد الوطني من الانهيار في حالات الكوارث التقنية.
الحادثة أيضًا تسلط الضوء على غياب الثقافة الرقمية لدى شرائح كبيرة من المواطنين الذين لم يعتادوا على استخدام حلول بديلة أو إجراءات احترازية رقمية في حياتهم اليومية. وقد بات من الضروري أن تشارك الجهات المعنية، بما فيها وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم، في نشر الوعي الرقمي وتعزيز فهم الناس لأهمية الأمن المعلوماتي وأساسيات العمل في بيئة رقمية حديثة.
كما لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأزمة، ورغم أنها لم تخلف عددًا كبيرًا من الضحايا، إلا أن وجود خسائر بشرية حتى وإن كانت طفيفة، يؤكد أن الأمن الرقمي لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي أو المائي أو الصحي، وأن الحفاظ على استمرارية الخدمات الإلكترونية لم يعد ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل هو عنصر أساسي من عناصر الأمن القومي الشامل.
في المحصلة، يمكن القول إن حريق سنترال رمسيس كان أكثر من مجرد حادث عرضي؛ لقد كان مرآة تعكس هشاشة في بعض أركان البنية الرقمية المصرية، وتنبيهًا قاسيًا إلى أن الوقت قد حان لإعادة صياغة السياسات والبنى والهياكل التي تقوم عليها منظومة الاتصالات والخدمات الرقمية في البلاد. ولعل الأمل الوحيد في هذه الحادثة أنها جاءت في وقت لا تزال فيه الفرصة سانحة لإصلاح الخلل، والانتقال من مرحلة رد الفعل إلى مرحلة الاستباق والاستعداد، ومن الاعتماد على بنية تقليدية إلى تبني منظومة رقمية متينة وقادرة على الصمود أمام أي طارئ.