طالما وجهت الاتهامات إلى ألعاب الفيديو بوصفها مسؤولة عن توجيه اللاعبين نحو العنف، وكثيراً ما ألقى الباحثون والمحققون اللائمة عليها في دفع البعض لارتكاب حوادث القتل والجرائم العنيفة.
وفي مقابل الاتهامات المتواصلة لألعاب الفيديو وأدلة العلماء على تسبب العنف الافتراضي في توليد أفكار عدوانية وسلوكيات مضادة للمجتمع، تدافع أبحاث أخرى عن الفوائد العديدة للألعاب كدورها في تحسين حاسة الإبصار، وسرعة التعلم، وتطوير التركيز الذهني، وزيادة الوعي بالمكان، ودقة التقدير، والقدرة على إتمام مهام متعددة بكفاءة، إضافة إلى دورها في جعل الشباب أكثر تعاطفاً مع الغير، وأكثر استعداداً للعطاء ومساعدة الآخرين.
وتظهر النقاشات حول ألعاب الفيديو تمسك كل طرف برأيه وأدلته، ولذا يرى باحثون ضرورة تجاوز التعميمات، ومعها الأبحاث التي وضعت ألعاب الفيديو في سلة واحدة على الرغم من الاختلافات في ما بينها، فالعمليات التي تجري داخل أدمغة اللاعبين ليست واحدة في الأنواع المختلفة كألعاب سباقات السيارات والألغاز وإطلاق النار ومطاردات الشوارع.
وبدا واضحاً للكثيرين أن ألعاب الفيديو ليست كياناً واحداً‘ فمنها ما هو مفيد والعكس. وكما ترى عالمة الأعصاب في جامعة “روتشستر” في نيويورك دافني بافيلير: “ندرك وجود سكريات مفيدة وأخرى ضارة، ولا نناقش ما إذا كان الطعام بشكل عام مفيد أم ضار بالنسبة لنا”، وترى أهمية تطبيق المبدأ ذاته عند الحديث عن تأثير ألعاب الفيديو.
وتوصلت دراسات بافيلير إلى بعض الآثار الإيجابية لألعاب الفيديو في الدماغ، خصوصاً ألعاب الحركة التي عادةً ما تتضمن تحديات بدنية كإطلاق النار وتخطي العقبات وجمع أشياء، فلكي يتمكن اللاعب من تسجيل معدل مرتفع يحتاج إلى مهارات عدة مثل الرؤية الشاملة، ومعالجة المعلومات، وسرعة تقدير الموقف، وإنجاز مهام متعددة في الوقت الذي يُجهز فيه رد فعل سريع. وأثبتت بافيلير مع فريق من الباحثين في دراسة أجريت قبل نحو 10 سنوات، أن الأشخاص الذين يلعبون ألعاب الحركة لأربعة أيام في الأسبوع بحد أدنى ساعة واحدة في اليوم، فاقوا غيرهم في حل الألغاز البصرية، وكانوا أقدر على تقدير أعداد العناصر، ومعالجة المعلومات المعقدة بسرعة، والتحكم في تركيز انتباههم على موضع معين، إضافة إلى سرعتهم في التحول من مهمة إلى أخرى.
كما أظهرت نتائج أبحاثها تأثير ألعاب الحركة مثل “Medal of Honor”، التي تتضمن إطلاق النار، على تحسين قدرة الأشخاص على تركيز انتباههم إلى إشارات معينة بالمقارنة مع لعبة مثل “Tetris” التي تطلب من اللاعب تدوير القطع أثناء سقوطها لتتكامل مع الأجزاء أسفل الشاشة.
وتدعم هذه النتيجة أبحاث أخرى؛ إذ وجدت دراسة لجامعة “كولومبيا البريطانية” في كندا، أن مستخدمي ألعاب الحركة أكثر قدرة على تحديد سبب إلهاءهم أو تشتيت انتباههم، وأقدر على العودة بالسرعة للتركيز في مهمتهم الأساسية.
وفي إثبات لقدرة ممارسي ألعاب الحركة على تجاهل التشتيت، أجرت بافيلير تجربة طلبت فيها من مجموعة من اللاعبين ومن غيرهم مشاهدة ثلاث سلاسل من الحروف تمر على شاشة بسرعة، بحيث يُركزون على واحدة ويضغطون على زر مع ظهور الأرقام، في الوقت الذي ارتدى كل منهم أجهزة تخطيط أمواج الدماغ للتعرف على الإشارات الكهربية في أدمغتهم.
وبينت النتائج استطاعة كلا الفريقين التركيز على سلسلة بعينها، لكن كان أداء مستخدمي ألعاب الحركة أفضل ورد فعلهم أسرع. وقالت بافيلير إن الفارق الأساسي بينهما تمثل في قدرة من يمارسون ألعاب الحركة على تجاهل المعلومات غير المتعلقة، وهو الأمر الذي ساعدهم على اتخاذ قرارات أفضل.
وبالإضافة إلى دور ألعاب الحركة في تحسين قدرة اللاعبين على التركيز، أشارت نتائج الأبحاث إلى تأثيرها على تقوية حاسة البصر، فيمكن لمستخدميها التمييز بشكل أفضل بين درجات مختلفة من اللون الرمادي، وهو ما يُطلق عليه “حساسية التباين”، أو القدرة على التمييز بين الأشياء ذات التباين المنخفض، ولها أهمية كبيرة في حالة القيادة ليلاً، وتتأثر هذه القدرة ف فعل تقدم العمر، كما تضعف لدى المصابين بمرض “العين الكسول” أو “أمبليوبيا”.
لكن مع الدراسات التي تناولت التأثيرات النافعة لألعاب الحركة في تحسين الإبصار وتقوية انتباه اللاعبين، هل من الممكن أن يكون لبعض ألعاب الفيديو دور في تحسين سلوكيات اللاعبين في الواقع، خصوصاً الأطفال والشباب الذين يمضون وقتاً طويلاً في استخدام ألعاب الفيديو؟
يعمل باحثون للإجابة عن مثل هذه السؤال، ومنهم دوجلاس جينتيلي، الذي يدرس تأثير ألعاب الفيديو في السلوك ووظائف الأعضاء في جامعة “ولاية أيوا” الأميركية. ويرى أن ألعاب الفيديو ليست جيدة أو سيئة بطبيعتها، بل يمكن أن تكون مفيدة أو تُحدث بعض المشكلات على الرغم من اختلاف الثقافات والفئات العمرية للاعبين، ويتوقف ذلك على مضمونها.
واختبر جينتيلي مدى تأثر مجموعة من صغار السن في أميركا واليابان وسنغافورة بالألعاب الاجتماعية التي يقوم فيها اللاعبون بسلوكيات اجتماعية كمساعدة الآخرين، وتبين أن الأطفال والمراهقين كانوا أكثر استعداداً لتقديم المعونة للآخرين في الحياة الحقيقية أو أثناء المهام الافتراضية التي كُلفوا بها، بعد ممارستهم ألعاباً عاونت فيها الشخصيات بعضها بعضاً واشتركت في بعض المهام كتنظيف الحي.
وحين طُلب من كلٍ من التلاميذ الأميركيين اختيار 11 لغزاً ليحلها أحد زملائهم مقابل الحصول على قسيمة بقيمة 10 دولارات في حال نجح الزميل في إنجاز 10 منها، مال التلاميذ الذين مارسوا ألعاباً اجتماعية لاختيار ألغاز سهلة أكثر ممن مارسوا ألعاباً عنيفة.
وأرجعت دراسة حديثة لجينتيلي شملت 3000 من تلاميذ المدارس واستمرت لثلاث سنوات، تأثير الألعاب المُعززة للسلوك الاجتماعي على عاطفة الطفل إلى دعمها لقدرة الطفل على الانتباه لمشاعر الآخرين وردود أفعالهم، بجانب تصرف الطفل بطريقة مفيدة للغير أثناء اللعب، وهو ما يؤثر في توافقهم مع الآخرين وتصرفاتهم في الواقع، بينما تختلف الحال تماماً مع ألعاب الفيديو العنيفة. وبالابتعاد قليلاً عن الأبحاث التي تناولت منافع بعض ألعاب الفيديو،
لاتزال ألعاب الحركة التي تتضمن مشاهد القتل والمعارك تتمتع بالقدر الأكبر من الشعبية بين المستخدمين، وهو ما يُشكل مأزقاً للساعين لتقديم ألعاب تجعل من الشباب أكثر ذكاءً وتعاطفاً.
لكن هذا لا يمنع استمرار المحاولات لتطوير ألعاب نافعة، فتلقت دافني بافيلير منحة من “مؤسسة العلوم الوطنية” الأميركية، وتعمل مع شركة الألعاب التعليمية “إي لاين ميديا” على تطوير لعبة حركة للأطفال بين سن الثامنة والثانية عشر بهدف تمكينهم من سرعة تقدير الأرقام، وهو ما يؤدي إلى تحسن أدائهم في الرياضيات.
كما يشارك عالم الأعصاب في جامعة “ويسكونسن ماديسون” ريتشارد ديفيدسون في تطوير لعبتين تناسب الأطفال بين الرابعة والحادية عشر، بغرض تطوير قدرتهم على التحكم الذاتي والتركيز الذهني وشعورهم بالتعاطف مع الآخرين.
وفي نهاية المطاف يبقى العامل الرئيس هو مدى إقبال المستهلكين أو الآباء على الألعاب التي يدافع العلماء عن منافعها.