ربما حان الوقت ليدرك الجميع هذه الحقيقة الحزينة: إن تردد المعالجات المركزية CPU Frequency قد مات، مات وتم دفنه وبدأت جثته في التحلل بالفعل .. و كلما تقبلنا هذه الحقيقة بشكل أسرع كلما تخطيناها لما هو أهم وأفضل .. إن كل يوم يأتي معه ما يكشف لنا كيف ان صناعة المعالجات المركزية قد وصلت لافاق مسدودة غير مسبوقة، يصعب التملص منها.
في السابق كانت الوسيلة الأقوي للوصول لاداء اعلي هي الوصول لتردد اعلي Higher GHz، من 1GHz الي 2GHz الي 3GHz ..الخ، وعندما لم يعد هذا ممكنا، اضطر الجميع لزيادة عدد الأنوية، رغم ما يصاحبه هذا من صعوبة في استخراج الأداء، فكتابة وتصميم التطبيقات احتاجت للتغيير لتستفيد من تعدد الأنوية في تقديم أداء أعلي.
مع الوقت استطعنا زيادة ترددات المعالجات بمقدار بسيط في كل جيل، الآن لم يعد غريبا أن نري معالجا بتردد 4.7GHz دون الحاجة لكسر سرعة. الأن صار من السهل علي أي مستخدم أن يكسر سرعة معالجه لـ 5.0GHz بسهولة.
لكن الحقيقة أن زيادة التردد لم تعد مجدية كما كانت في الماضي، لقد وصلت استفادة المعالجات من التردد الي اقصاها ولم يعد هناك المزيد. لقد اصطدمنا حرفيا بحائط سد كبير. حائط من العسير علينا تخطيه.
يمكنك كسر سرعة معالجك لسرعة الضوء حتي، لكن أداءك لن يتحسن حينها الا بقدر ضئيل للغاية! ذلك أن تركيب المعالج نفسه يمنع استفادته من التردد العالي.
إن المعالجات الحديثة كلها تعتمد مبدأ التجزئة Pipeline، فاجزاء المعالج الصلبة كثيرة للغاية، وبالتالي فان التعليمات والأوامر تقسم الي أجزاء كثيرة أيضا، يتوزع كل جزء منها علي جزء مقابل في المعالج، وتسير عملية المعالجة جزءا بجزء، في خط تجزئة Pipeline طويل يصل بعضه بعضا، كالسير المتحرك في مصنع كبير، أو كخط تعبئة ضخم، والسير يتحرك باستمرار.. ما يخرج منه من أجزاء يدخل مكانها أجزاء أخري بشكل متواصل. دون فراغات أو فواصل. بهذا الشكل نضمن الاستفادة من كل جزء في المعالج في انجاز العمل. بل أنه كلما قسمت العمل لأجزاء كثيرة صغيرة، كلما تمكنت من زيادة التردد الي مستويات كثيرة، فكلما صغر الجزء يمكنك حشره وانجازه في تردد واحد، وهكذا يصير لكل تردد جزءا يتم انجازه فيه، نبضة بنبضة، وجزءا بجزء.. كذا يسير العمل كأروع ما يكون.
لكن للتجزئة حدود، وهي حدود تأتي من قدرات مصمم المعالج، الذي يحاول بكل ما أوتي من جهد أن يقسم كل شئ الي أصغر أجزاء ممكنة، ثم يقسم كل جزء الي أجزاء أكثر وأكثر وأكثر. لكن الحقيقة أن هناك أجزاء لا تقبل التقسيم الي ما هو أصغر. تلك الأجزاء مثل الغصة التي تقف في حلق الانسان، تخنقه وتضايقه وقد تقتله. تلك الأجزاء الضخمة تبطأ عملية المعالجة، فهي تجعل الوصول للتردد العالي غير ممكنا، لأنها ببطئها تستهلك الكثير من الترددات، حتي لو كسرت تردد المعالج الي أفاق غير مسبوقة، ستظل تلك الأجزاء البطيئة تأكل الكثير من الترددات، وسيتضاعف مقدار ما تأكله من ترددات كلما ضاعفت التردد!
وكنتيجة لهذا فان وقت انجاز العمل يظل ثابتا مهما زدت في التردد، لأن الأجزاء التي لا تقبل التجزئة تظل ثابتة السرعة، بل إنها تعطل ما بعدها من أجزاء كذلك!، فهي تعرقل انتظام سير العمل، هي كالسيارة المعطلة في شارع ضيق، تحشر خلفها طابورا طويلا من السيارات الغاضبة التي لا تستطيع الحركة حتي يتم تصليح السيارة المعطلة.
إننا نري أثار كل هذا في كل يوم، نسمع عن كسر سرعة المعالج كذا من 3GHz الي 5GHz، وهي زيادة 60% في السرعة، لكن ماذا عن زيادة الأداء؟ فقط 30%! ونسمع عن المعالج كذا الذي ارتفعت سرعته من 4GHz الي 5GHz، وهي زيادة في السرعة بمقدار 25%، فقط لتجد أن الأداء يزيد فقط بمقدار~ 12%! بل ونسمع عن كسر جنوني للسرعة Overclock لـ 6GHz و 7GHz ليقابلها زيادة محدودة في الأداء لا تتناسب بالمرة مع الزيادة الرهيبة في التردد، والتي يصاحبها استهلاك شنيع للطاقة وخرج حراري هائل يجعل أجزاء المعالج تسيح وتتفكك حرفيا.
لا يمكن التحايل علي هذه العقبة الا باعادة تصميم المعالج من الصفر، وتجزئة كل الأجزاء الضخمة الي ما هو أصغر، وهي عملية صعبة للغاية بعد مرور كل تلك العقود التي اعتمدنا فيها علي تصميمات متشابهة، كما سيصاحبها تكلفة أعلي في عدد دوائر المعالج، وفي استهلاكه للطاقة، وحتي في تلقينه microcode programming من الداخل. وبالقطع لا يمكننا زيادة التردد لأنها عملية غير مجدية، ويصاحبها استهلاك شنيع للطاقة دون فائدة.
وفوق كل هذا فان التصميمات الحالية للمعالجات تقبع تحت طغيان الأجزاء المظلمة Dark Silicon بداخلها، تلك الأجزاء التي تقصم سرعة المعالج في قسوة اذا ما بدأت في العمل، مما يعني أنه لا يمكنك تشغيل أجزاء المعالج كلها معا بسرعات عالية، فما أكثر المعالجات التي تنخفض سرعتها بمقدار الرُبع اذا ما عملت كل أنويتها معا في وقت واحد، بل وما أكثر المعالجات التي قد تنخفض سرعتها الي النصف فقط لمجرد تشغيل مسرعات الوسائط المتعددة يها (مثل AVX-512)!
وكل هذه التراكمات ترسم صورة قاتمة لحال المعالجات المركزية في وقتنا هذا، وما يكتنفها من غموض حول أسباب بطء تطورها وقوتها، إن الأجزاء الضخمة والأجزاء المظلمة هي مثل السرطان الخبيث الذي يقاوم كل عقاقير العلاج التي تحقن في جسد المريض، وما لم يتم استئصال تلك الأجزاء باعادة تركيب المعالج من جديد، فان الطريق الي آفاق جديدة من مستقبل الحوسبة لن يتحقق في أي وقت قريب، والسؤال الآن هل يوافق مصنعي المعالجات علي الخضوع لعملية الاستئصال بكل مضاعفاتها وعواقبها؟ أم أن الحال سينتهي بنا الي مجرد محاولات يائسة لإحياء جثة مدفونة ومتحللة منذ زمن طويل؟ إنها محاولات مكتوب لها الفشل المحتوم بطبيعة الحال .. منذ متي سمعتم عن موتي يقومون من قبورهم؟