لطالما شكل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، أي الذي يتيح للجميع حرية استخدامه وتطويره ومشاركته، محور نقاش واسع بين المختصين والجمهور العام، إلا أن هذا الاهتمام تصاعد بشكل كبير خلال الأسابيع الأخيرة. ويعود ذلك إلى موجة من الجدل أثارتها التحديثات الأخيرة لمنصة “ديب سيك” (DeepSeek)، بالإضافة إلى تنامي الاهتمام بالمبادرات المطروحة في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً من قبل جهات بارزة مثل مجموعة “جي42” في الإمارات وشركة الاتصالات السعودية في المملكة العربية السعودية، تماشياً مع سعي المنطقة إلى مواكبة النماذج المتقدمة القادمة من الصين والولايات المتحدة. وتتقدم مبادرات محلية مثل “فالكون” (Falcon) و”فنر” (Fanar) و”جيس” (Jais) بخطى ثابتة، ما يرسخ حضور المنطقة على خارطة الذكاء الاصطناعي العالمية، حيث أطلقت مؤسسات إقليمية مثل جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي برامج متخصصة ونماذج لغوية ضخمة، في حين تعمل جهات أخرى في المنطقة على نشر حلول متطورة مدعومة ببنى تحتية محلية.
ورغم أن دخول لاعبين جدد إلى السوق يعزز بعض التحديات القائمة، مثل جودة المعلومات المستخدمة وحمايتها، إلا أن “دينودو”، الشركة الرائدة في إدارة البيانات، رصدت عدداً من المزايا التي يمكن أن تنشأ عن المنافسة التي يشهدها القطاع، والتي ينبغي على الشركات في الشرق الأوسط أن تكون مستعدة لاغتنامها.
وفي هذا السياق، قال غابرييل أوبينو، نائب الرئيس الإقليمي للمبيعات في منطقة جنوب أوروبا والشرق الأوسط لدى “دينودو”: “يجب أن تكون المؤسسات، بغض النظر عن مستوى نضجها في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي، مدركة للتغيرات الجديدة التي تعيد رسم ملامح المشهد نتيجة التطورات في هذا المجال مؤخراً. ونظراً للفرص الواسعة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي التوليدي، يجب اتخاذ جميع الخطوات التي تسهل استخدامه وتعزيز أمانه، وخصوصاً لدى المؤسسات التي تتعامل مع بيئات بيانات شديدة التعقيد”.
لكن ما هي هذه الفوائد المحتملة بالتفصيل؟
- خفض التكاليف: رغم الإمكانات الهائلة التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي التوليدي لإحداث تحولات جذرية، فإن تكاليف تطويره وإدارته كانت حتى الآن من أبرز العوائق التي حدت من اعتماده لدى العديد من المؤسسات. وفي هذا السياق، يعتبر أي تطور تقني يسهم في تبسيط عملية اعتماده وخفض التكاليف المرتبطة به مكسباً حقيقياً للشركات في الشرق الأوسط، وخصوصاً تلك التي تسعى إلى خفض النفقات بالتوازي مع تنفيذ تحولات رقمية واسعة النطاق.
- تعزيز الكفاءة: شهد الطلب على الكهرباء ارتفاعاً بنسبة 14% خلال العقد الماضي، وتشير تقديرات وكالة الطاقة الدولية إلى أن استهلاك مراكز البيانات للكهرباء بحلول عام 2026 سيبلغ ضعف ما كان عليه في عام 2026، بفعل الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي. أي أن مسألة استدامة الذكاء الاصطناعي لم تعد موضوعاً ثانوياً. وفي هذا الإطار، يتميز “ديب سيك” باهتمامه الكبير بالكفاءة، إذ يستند إلى بنية توزيع المهام على مجموعة من النماذج المتخصصة (Mixture-of-Experts) التي تتيح تنشيط جزء محدود فقط من المعايير أثناء عمليات المعالجة، ما يقلل من استهلاك الطاقة دون التأثير على جودة الأداء. ونظراً لكون الطاقة عنصراً محورياً في الاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط، فإن السعي نحو ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة ينسجم مع التوجهات الوطنية نحو النمو المستدام وتقليص البصمة الكربونية.
- التطور التكنولوجي: تشكل حركة الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر فرصة حقيقية لنشر التقدم التكنولوجي على نطاق أوسع بالنسبة للمهتمين بالابتكار، حيث أسهم نشر الشيفرة المصدرية لنموذج R1 LLM من قبل “ديب سيك” في تمكين مهندسين وعلماء ذكاء اصطناعي من مختلف أنحاء العالم من تطوير النموذج وتحسينه. وتجدر الإشارة إلى أن الشيفرة المصدرية للنموذج ذاته أصبحت متاحة اليوم عبر منصات أخرى مثل “أمازون ويب سيرفسز” و”آزور”. وينسجم هذا الزخم التعاوني مع المنظومات التقنية في دبي وأبوظبي والرياض، حيث تستثمر الحكومات بشكل كبير في مجتمعات المصادر المفتوحة وحاضنات الابتكار وأطر تطوير البرمجيات السحابية. وتأتي مبادرات محورية مثل “فالكون” (الذي طوره معهد الابتكار التكنولوجي في الإمارات)، و”جيس” (الذي طورته مجموعة “جي42″ بالتعاون مع جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي)، و”فنر” في قطر، ونموذج “علام” (ALLaM) في السعودية، لتعيد رسم المشهد، وتؤكد أن الشرق الأوسط لا يكتفي بدور المتلقي للابتكار، بل يرسخ حضوره كمساهم فعال في مستقبل الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم.
تحديات بانتظار الحلول
رغم الفرص الواعدة التي يقدمها القطاع، إلا أن الواقع لا يخلو من تعقيدات، وخصوصاً تلك المرتبطة بإدارة المعلومات، حيث أشارت دراسة حديثة أجرتها شركة “جارتنر”، إلى أن 30% من مشاريع الذكاء الاصطناعي التوليدي سيتم التخلي عنها بحلول نهاية عام 2025، بسبب ضعف جودة البيانات، إلى جانب عوامل أخرى مثل غياب أدوات ضبط المخاطر وارتفاع التكاليف أو عدم وضوح القيمة التجارية. وفي هذا السياق، ينبغي على المؤسسات الحكومية أو الخاصة في الشرق الأوسط أن تضمن دعم مبادرات الذكاء الاصطناعي بأنظمة حوكمة بيانات قوية وقادرة على مواكبة هذا التطور.
ما هي التحديات التي لا تزال بانتظار حلول؟
- تهيئة البيانات لتكون جاهزة للذكاء الاصطناعي: لا يزال إعداد البيانات لتصبح قابلة للاستخدام الفعال في تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمثل تحدياً للعديد من المؤسسات، ورغم أن تقنيات مثل التوليد المعزز باسترجاع المعلومات (RAG) توفر حلاً شاملاً، إلا أن معظم تطبيقاتها تعتمد على تجميع البيانات ذات الصلة وتخزينها بصيغة متجهات، مما يتطلب وقتاً وتكاليف مرتفعة، فضلاً عن أن النتائج التي يوفرها تكون محدثة فقط حتى آخر عملية تحميل للبيانات. البديل الأكثر كفاءة هو ما يعرف بالتوليد المعزز باسترجاع المعلومات عند الاستفسار (Query RAG)، حيث يتم تحويل البيانات الوصفية فقط إلى متجهات، بينما يستخدم النموذج اللغوي هذه البيانات لتوليد استفسارات (بلغة SQL مثلاً) تمكنه من الوصول إلى المعلومات الدقيقة من مصادرها الأصلية. ويتيح هذا النهج الحصول على إجابات دقيقة وآنية بدون الحاجة إلى تكرار البيانات أو معالجتها بشكل مكثف. وفي الشرق الأوسط، تعد هذه المنهجية الأفضل للامتثال للتشريعات التي تفرض بقاء البيانات داخل الدولة، مع تقليل التكرار غير الضروري.
- ضمان الأمن والخصوصية: لا تخفي كثير من المؤسسات تحفظاتها تجاه استخدام تطبيقات “ديب سيك”، نظراً لاتصالها بخوادم تديرها مؤسسات صينية أو تابعة لها، وهو ما دفع بعض الجهات الحكومية الأمريكية إلى حظر استخدامها، كما هو الحال بالنسبة للجهات في الشرق الأوسط التي تلتزم بسياسات صارمة تخص السيادة على البيانات والأمن السيبراني. ومن الحلول المحتملة لهذه المسألة الحساسة، الامتناع عن استخدام التطبيقات الجاهزة، وتشغيل نموذج R1 LLM بالكامل داخل بيئات آمنة وخاضعة لرقابة المؤسسة ذاتها. وسواء تعلق الأمر بنموذج مفتوح المصدر أو تجاري، يبقى من الضروري التأكد من أن بيئة التشغيل تستوفي متطلبات الأمان والخصوصية، تماماً كما هو الحال مع أي برنامج أو خدمة تعتمد على البيانات الحساسة أو البيانات الوصفية.
ومع التطور المستمر للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، تجد المؤسسات في الشرق الأوسط نفسها أمام معادلة دقيقة، وهي التقدم بثقة نحو الابتكار، مع الالتزام في الوقت نفسه بمعايير الامتثال والكفاءة والأمان. ومن خلال التركيز على الإدارة الذكية للبيانات ونظم الحوكمة القابلة للتوسع، ترى “دينودو” أن بإمكان المؤسسات تحويل هذه التحديات المتسارعة إلى ميزة تنافسية مستدامة على المدى الطويل.