خلال ربع قرن مضى، برز معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة (CHTF) باعتباره المعرض التكنولوجي الأهم في الصين وأحد أبرز منصات الابتكار في آسيا. لم يكن هذا الحدث مجرد معرض تجاري سنوي، بل أصبح رمزًا لطموحات الصين في التحول من اقتصاد يعتمد على التصنيع منخفض التكلفة إلى قوة كبرى في مجالات البحث والابتكار والإنتاج عالي التقنية. يُعقد المعرض سنويًا في مدينة شينزن، التي أصبحت مرادفًا للنهضة الاقتصادية الصينية السريعة، ويجسد مسار الأمة من مرحلة التجريب في عصر الإصلاح إلى مرحلة الريادة التكنولوجية في القرن الحادي والعشرين.
البدايات في مرحلة انتقالية
وُلدت فكرة إقامة معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، في لحظة مفصلية من تاريخ الصين. فقد حققت الإصلاحات الاقتصادية بالفعل نموًا مذهلًا، وتحولت شينزن التي كانت قرية صيد صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 30 ألف نسمة إلى مدينة كبرى تضم ملايين السكان. وكانت قد عُينت عام 1980 كأول منطقة اقتصادية خاصة في الصين، واستطاعت في أقل من عقدين جذب الاستثمارات الصناعية من مختلف أنحاء العالم لتصبح “مصنع العالم”.
ومع ذلك، أدركت القيادة الصينية في أواخر التسعينيات أن الاعتماد على التجميع منخفض التكلفة وحده لن يضمن استمرار النمو. كان لا بد من الارتقاء في سلسلة القيمة العالمية عبر تعزيز الابتكار المحلي وتشجيع البحث والتطوير، وتأسيس شركات تكنولوجية وطنية قادرة على المنافسة عالميًا. ومن هذه الرؤية وُلد معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة في عام 1999، بدعم من وزارات مركزية مهمة مثل وزارة العلوم والتكنولوجيا ووزارة التجارة، إلى جانب حكومتي مقاطعة جوانجدونج ومدينة شينزن.
منذ البداية، لم يُنظر إلى المعرض على أنه مجرد منصة عرض، بل على أنه منبر وطني شامل: مكان يتيح للجامعات ومعاهد البحث والشركات الناشئة والكبرى عرض إنجازاتها، ولصناع القرار تحديد الأولويات الاستراتيجية للدولة، وللتعاون الدولي في مجال التكنولوجيا أن يجد قاعدة راسخة.
السنوات الأولى: عرض محلي (1999 – منتصف العقد الأول من الألفية)
كانت الدورات الأولى للمعرض متواضعة من حيث الحجم مقارنة بما هي عليه اليوم، لكنها حملت رمزية كبيرة. إذ جمعت الجامعات والمؤسسات المملوكة للدولة والشركات الخاصة الناشئة التي بدأت بالاستثمار في البحث والابتكار. ركزت الفعاليات في تلك الفترة على الاتصالات والإلكترونيات والبرمجيات، وهي المجالات التي سعت الصين إلى تقليص الفجوة فيها مع الغرب.
كانت شينزن موطنًا لعدد قليل من الشركات الطموحة مثل هواوي وZTE، التي كانت في بداياتها بتطوير معدات الاتصالات، وقد وفر المعرض لها منصة عامة لإبراز إمكاناتها المتنامية. في الوقت ذاته، شاركت مؤسسات بحثية مرموقة مثل جامعة تسينجهوا والأكاديمية الصينية للعلوم بعرض إنجازاتها البحثية، في محاولة لمد الجسر بين العلم والصناعة.
ورغم أن المشاركة الدولية كانت محدودة في السنوات الأولى، إلا أن المعرض سرعان ما جذب الاهتمام بصفته نافذة تطل على مستقبل الصين. ومع حلول عامي 2003 – 2004 بدأت وفود من أوروبا والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية بإنشاء أجنحتها الخاصة. كما شهدت تلك الفترة إدخال منتديات رأس المال الاستثماري التي ربطت الشركات الناشئة الصينية بالمستثمرين المحليين والدوليين.
مرحلة التوسع والعالمية (منتصف العقد الأول من الألفية – أوائل 2010s)
في منتصف العقد الأول من الألفية، دخل معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة مرحلة جديدة. فقد كان الاقتصاد الصيني ينمو بمعدلات مضاعفة، وجعلت الحكومة من الابتكار العلمي والتكنولوجي حجر الأساس في استراتيجيتها التنموية. توسع المعرض ليشمل نطاقًا أوسع من القطاعات مثل التكنولوجيا الحيوية والطاقة النظيفة والتقنيات البيئية والتصنيع المتقدم وتقنية النانو.
وكان من أبرز التحولات في هذه المرحلة الطابع الدولي المتزايد للمعرض. فقد أنشأت الدول أجنحة وطنية لا لعرض تقنياتها فقط، بل أيضًا للتعبير عن رغبتها في التعاون مع الصين. وكانت ألمانيا والولايات المتحدة واليابان من أوائل الدول في هذا المجال. كما بدأت الشركات العالمية متعددة الجنسيات في استخدام المعرض لإطلاق منتجاتها في السوق الصينية، إدراكًا منها أن الحدث أصبح بوابة أساسية لدخول منظومة الابتكار في الصين.
وفي الوقت ذاته، كانت شينزن نفسها تتحول. إذ انتقلت من كونها مركزًا للتصنيع التعاقدي إلى حاضنة للمؤسسات الابتكارية. وظهرت شركات ناشئة في مجالات مثل الروبوتات والطاقة المتجددة والإلكترونيات الاستهلاكية. ومن أبرز الأمثلة شركة DJI التي أصبحت فيما بعد رائدة عالمية في مجال الطائرات بدون طيار، حيث وجدت في CHTF منصة لإبراز إمكاناتها وإطلاق مسيرتها العالمية.
حقبة الريادة في الابتكار (2010s – الحاضر)
شهد العقد الثاني من الألفية تحولًا جذريًا في دور المعرض، حيث لم يعد مجرد منصة “لللحاق بالركب”، بل أصبح ساحة تعرض فيها الصين ريادتها في التقنيات المستقبلية. ومع صعود مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، اتصالات الجيل الخامس، الروبوتات، الحوسبة السحابية، والمدن الذكية، أصبح المعرض مرآة لأولويات دولة تسعى لتصدر موجة الابتكار العالمية التالية.
استغلت هواوي المعرض بشكل متكرر لاستعراض تقدمها في شبكات الجيل الخامس والبنية التحتية للاتصالات، بينما جذبت شركة DJI أنظار العالم بمنتجاتها من الطائرات بدون طيار التي أحدثت ثورة في صناعة الأفلام والمسح الجوي. وقد جعل وجود هذه الشركات الرائدة من المعرض نقطة جذب أساسية للإعلام والمستثمرين الدوليين.
وتوسع المعرض بشكل هائل من حيث المشاركة، إذ بات يستقطب في أواخر العقد الثاني من الألفية أكثر من نصف مليون زائر سنويًا، مع آلاف العارضين من أكثر من 40 دولة. لم يعد CHTF حدثًا محليًا، بل أصبح ملتقى عالميًا. كما أصبحت منتديات الاستثمار والتمويل جزءًا محوريًا من الفعاليات، تربط الشركات الناشئة برأس المال المغامر والتمويل الحكومي، في حين استقطبت المؤتمرات العلمية شخصيات بارزة من الحاصلين على جوائز نوبل والعلماء وقادة الشركات.
ولا يزال الحضور الحكومي قويًا، حيث يُستخدم المعرض كمنصة للإعلان عن السياسات الجديدة والتأكيد على الأولويات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا الخضراء والاستقلال في صناعة أشباه الموصلات. ويُميز هذا الدور المزدوج كمعرض تجاري مدفوع بالسوق ومنصة مدعومة من الدولة CHTF عن غيره من المعارض العالمية مثل CES في لاس فيجاس أو Computex في تايبيه.
الرمزية والأهمية العالمية
تكمن أهمية معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة ليس فقط في المنتجات والتقنيات المعروضة، بل أيضًا في ما يمثله. فهو انعكاس للمسار التكنولوجي الصيني: من مرحلة السعي للحاق بالعالم المتقدم، إلى مرحلة الندية، وصولًا إلى السعي نحو الريادة. كما يجسد هوية شينزن التي تحولت من رمز للتصنيع منخفض التكلفة إلى مهد لعمالقة التكنولوجيا العالميين، ليكون المعرض بمثابة مهرجان سنوي يلخص هذا التحول.
أما بالنسبة للمشاركين الأجانب، فإن المعرض يحمل فرصًا وتحديات في آن واحد. فمن جهة، يوفر وصولًا فريدًا إلى بيئة الابتكار في الصين وفرصًا لبناء شراكات في أكبر سوق استهلاكية في العالم. ومن جهة أخرى، يبرز التنافسية المتنامية للشركات الصينية التي لم تعد مجرد مقلدة، بل أصبحت من المبتكرين الرائدين.
الخاتمة
منذ تأسيسه عام 1999 وحتى اليوم، تطور معرض الصين للتكنولوجيا الفائقة من منصة محلية متواضعة إلى ساحة عالمية للابتكار والتكنولوجيا. وهو يعكس بدقة مسار التحول الأكبر للاقتصاد الصيني: من الاعتماد على اليد العاملة منخفضة التكلفة إلى اقتصاد يقوده البحث وريادة الأعمال والتقنيات المتقدمة.
وبجانب أحداث كبرى مثل CES وComputex، حجز CHTF لنفسه مكانة بارزة في الأجندة العالمية لأهم المعارض التكنولوجية. ومع توجه الصين نحو مجالات أكثر تقدمًا مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة الخضراء، أشباه الموصلات، واستكشاف الفضاء، سيظل هذا المعرض نافذة أساسية لفهم طموحات الصين وإنجازاتها. فهو ليس مجرد معرض، بل منصة تُعرّف العالم بالهوية التكنولوجية للصين.